الجمعة، 24 مايو 2013

تعاستك .. تعاستك .. نود لك تعاستك .!


تعودت أن أصلي بجانب الجدار ..
لا لشيء إلا أنني لم أقتنع بعد بأنه ( للحيطان ودان ) بينما للإنسان أذنان تسمعان حقاً ..
وتحصيان الأنفاس .. 

صادف في يوم أنني صليت بجانب جار لي اشتهر بأنه من المباحث .. 
وأنا لا أعلم صحة ذلك من عدمه .. 
ولكني غير مستعد للمخاطرة ..
يومها كدت أسبق الإمام إلى التسليم ..
أوشكت على المغادرة .. 
وإذ بشاب من الجيران .. 
كان بالأمس القريب جداً يشم
( الباتكس ) .!

لأراه وقد نبت على خديه ( مشروع لحية ) ..
وأعتقد بأنه لم يبدأ في الصلاة إلا منذ يومين .. 

سحبني بغلظة .. وقال لي : أنني ـ هداني الله ـ لم أصل جيدا .. 
ولم أسبّح الله في سجودي .. 
وطرقعت أصابعي .. 
وحككت رأسي .. 
وعبثت في أنفي .. 
وانتقل في حديثه ـ فجأة ـ إلى الأوضاع في العراق ..
وكيف أننا لا نجيد الصلاة فكيف يستجيب الله دعاءنا للمظلومين هناك .!
دفنت رأسي في صدر ثوبي متظاهراً بمسح مايفترض أنه سال من أنفي .! 
وذلك حتى أخفي ملامح وجهي عن جاري الآخر .! 

لا أجزم إن كان قلبي قد توقف أم لا عندما شتم الحكومة والحاكم الذي يمنعه من الجهاد في العراق .! 

حاولت أن أفهمه ـ عبثاً ـ وأنا لا زلت أمسح أنفي بثوبي من الداخل : بأن الحاكم إنما يمنعه حتى يوفر جهود الشباب إن أصاب دياره ما أصاب العراق ..
وحتى لا يفاجأ عند أول صافرة إنذار بأن نصف البلد فارغ .! 
فجأة يتذكر الواحد منهم أن له أبناء عمومة في دولة قريبة لم يزرهم منذ فترة .!
ويتذكر الآخر أنه هناك كعبة في مكة منذ الأزل .. 
وأن عليه أن يعتمر .. 
ويأخذه الخشوع فيطيل في طوافه شهراً أو شهرين .! 

اقتربت منه جداً وقلت له : يا أخي أرجوك ..
تكفى ترى جارنا فلان بجنبي ..
الله يرحم والديك رح جاهد بس لا تورطني .!

دعا لي بالهداية .. وانصرف .. 

* * * ** * * * * * * * ** * * * ** * * * *


أعرف أستاذا سودانيا فاضلا يعمل في مكتبة تبيع كتبا مستعملة ..
هذا الأستاذ رائع ، بل مخيف ، أول شخص أعرفه يعمل في مكتبة ويقرأ الكتب !!
يقرؤها لأنه يحبها ، ويعمل في المكتبة ـ على ما أعتقد ـ لأنه يعشق استنشاق غبار الكتب القديمة .. 
أزوره مرتين أسبوعيا ـ أو أربع مرات ـ أو أزوره في الأسبوع أسبوعاً 
( يعني كل يوم بس خانني التعبير ) ،،
أضطر في كل مرة إلى تذكيره بشخصي المتواضع ،، 
باسمي طبعا ، اسأله عن عنوان الكتاب الذي كنت أقرأه البارحة ؟ فيقول : وهل كنت عندنا البارحة ؟ 

هذا إذا لم ينس كونه رآني من قبل ! ( إتّ جيت متين يا زول ؟؟ )

هذا الفاضل ، حطم الأرقام العالمية والأولمبية للنسيان ..
أنا الذي حسبت أنه لا يضاهيني في النسيان أحد ! 
اكتشفت أنني استخدم منظفا ( مضروباً ) للمخ ..
أما هذا الفاضل فيبدو أنه يستخدم ( سائل فيري العنيد ) 

انتقيت رواية رومانسية ..
تتحدث عن الحب والأزهار ..
عن النساء الباكيات المتمخطات في مناديل وردية .! 
عن الأمهات اللائي يوصلن رسائل الغرام لأبنائهن .! 

رواية تتحدث عن أشياء مبتذلة ..
ولكنها جميلة ..

أشياء ليس فيها موت وحرب واضطهاد ..

أخبرته بأنني سوف أدفع له آخر الشهر .. 

لتثور ثائرته ..

ويصرخ في وجهي : بالغتَ يا مصعب .! معقولة ما معاك خمسة ريال ؟

أجبته من فوري : مصطفى يا أستاذ مصطفى . 

ليرد علي : مصطفى ولا عديلة ..
اعمل باسمك شنو .! 
واللهِ اتّ ازا ما قادر تدفع خمسة ريالات أخيرليك تموت ؟


فأخبرته أن شكراً .. لأنه ذكرني بخيبتي .. وانصرفت 

لأقرأ الرواية ـ فقط ـ لأجدها تتحدث عن الكثير من النساء الخائنات ..
والرجال المحبطين .. 
والمعتقلات ..
والوالي الذي يغتصب أراضي الفلاحين ..
والبطل الذي ماتت أمه حزناً عليه لأن الحاكم شنقه .. 
ليتضح فيما بعد أنه كان مسجوناً .. ليموت بعد أن عرف أن أمه ماتت .. 
ولم ينس أن يصاب بالسرطان قبل أن يموت ، لأن ضميره أنبه على عدم موته في المرة الأولى .! 



* * * ** * * * * * * * ** * * * ** * * * *

وفي التلفاز .. 
أتابع مع أخي الأكبر برنامجاً ـ فاشلاً ـ يتحدث عن القوى والقدرات الخفية .. 
والإحساس والطاقات الكامنة .. والبرمجة العصبية .! 

يبدو لي أن هذا الأحمق مصاب بمرض عصبي .. فهو لا يكف عن القفز .!
ليخبرني أنه لا حل للإحباط إلا أن تبتسم وتتظاهر بأنك سعيد ، وتمشي بين الناس فاغر الفاه متدلي اللسان .! 

ليختتم برنامجه بقوله ( عليك أن تخرج الطاقة المحبوسة في داخلك ) 
استجاب له أخي على الفور .. وأخرج طاقته الحبيسة .. وأغلقت أنفي .! 

أما أنا فلدي حل آخر .. وهو أنك إذا أردت ألا تكون محبطاً فابحث عن شخص آخر أشد إحباطاً وتعاسة منك .! 
ولعمري .. إنهم كثر .!

عندما أشعر بأني موشك على الإنفجار .. أهاتف صديقاً لي .. يعمل مدرساً للتربية الفنية .!
وهو لا يجيد حتى رسم وجه بدون ملامح .! 

تم تعيينه مدرساً في إحدى الهجر .. ويعلم الله أنني لا أعرفها ولم أسمع بها قط .! 

اسأله عن أحواله .. فيخبرني أنه لم ير مياه تخرج من الصنبور منذ سنتين .! 
وأنه يحصل على الماء من الوادي .. وأنه يسافر مسافة طويلة ليجلب الطعام .. 
أتظاهر بالتعاطف معه وأسأله المزيد من ما يعاني .. وأنا في الحقيقة مستمتع أشد استمتاع.! 

وهو يختم المحادثة ـ دائماً ـ بعبارة واحدة ( ماذا سيخسر العالم بموت مدرس فنية ) 
أجيبه ـ إمعاناً في إحباطه ـ : لا شيء طبعاً ، إلا أنك تريح الطلاب من عناء مادة إضافية لا تفيدهم في شيء .!

* * * ** * * * * * * * ** * * * ** * * * *

والتلفاز جميل .. 
يتيح لك الخيار في أن تقضي ليلتك ساهراً مع أبطال مسلسل أمريكي .. لم تجد طائرة أبطاله مكاناً غير هاواي لتتحطم فيه .! 
ولو كنت أنا في تلك الطائرة لسقطت في الربع الخالي .. 
أو في مستشفى أمريكي يقضي العاملون فيه الوقت في تقبيل بعضهم البعض .. 
وإقامة علاقات عابرة .. 
ومع ذلك يجدون الوقت لعلاج المرضى وإنقاذهم من الموت .! 


كل ذلك جيد .. 


شريطة أن لا تكون تعيساً لتتابع عملاً عربياً أتعس منك .. 
يخبرك المخرج وأبطاله أن الواقع ( قبيح ) وأنه ليس في الدنيا إلا رجال يغتصبون النساء..
وشباب مسعور تربص بفتاة بريئة مرت بهم فافترسوها .!
ويختزلون الدنيا كلها في عائلة واحدة ..
لديها ابنتان مطلقتان .. 
وواحدة ( فلتانة على حل شعرها )
وواحدة حامل من علاقة غير شرعية بابن الجيران .. 
وولد عاق .. وآخر إرهابي .. وثالث مدمن .! 

أغاني الشارة 
( يكفي دموع .. يكفي ألم .. أنا مو جدار أنا روح ودم )

و ( آآآآآه يا ليل القديش .. أنا تعباااان ما أدري ليش ) 

ومسلسل يقول أن الزمن غدار ..
وآخر يخبرك أنه بلا أمل .. 
وثالث يعلمنا كيف أن الدموع لا تجف .! 

والأخبار تنبؤك بأن يوم العالم كان زفتاً .. 
وأن غداً يبشرك بالمزيد من الدماء .!



أما لماذا كتبت هذا الموضوع ..؟

لأنه لا يثلج صدري شيء أكثر من أن أرى التعاسة بادية على وجوهكم .. 


فنحن ـ جميعاً ـ نود لك تعاستك .!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق