الجمعة، 24 مايو 2013

المتسوِّلـون في أرض الله ..!!

..
.
يرتفع رنين الهاتف الجوال في الساعة الثانية والنصف صباحاًَ ، فأثب من فراشي فزعاً لأرد على المتصل 

أخبره أن ( ألوو ) بصوتٍ يحمل معه أطنان من النوم والضجر 

يقول : سلام ، ثم يسأل بصفاقة عجيبة ، عسى ما أزعجتك ؟
لا تقول لي إنك كنت نايم ..!!

بالرغم من أن صوتي قد أجاب على سؤاله بوضوح قبل حتى أن يسأل ، 
ولو أنني ( شخرت ) له في السماعة لما كان أبلغ ..
إلا أنني ـ كالعادة ـ لم أجرؤ على التصريح بذلك بل أجبت :
لا وش دعوة ، أحد ينام الوقت هذا .؟

أجاب باستغراب حقيقي : حتى أنا قلت لنفسي مو معقولة والله ..!

المهم .. 
ترى أبو عبد العزيز مرقد في مستشفى ( صحتك بالدنيا ) جناح 402 ، 
وتراه زعلان منك مرّة لأنك ما زرته ..! 

أردت أن أسأله عن أبو عبد العزيز هذا ..! 
(  لا أعرفه أو على الأقل لا أذكر أنني أعرف شخصاً بهذا الاسم لدرجة تتيح له أن يعتب علي لأنني لم أزره)

إلا أنني تفطنت إلى أنه من الواجب علي أن أعرف من هو المتصل أولاً ، قبل أن اسأل عن ( أبو عبد العزيز ) هذا ..! 

إلا أنه أخبرني أن ( آسف على الإزعاج ، كمل نومك يالله ) 
ثم أغلق الهاتف ..!

يا سلام ، هذا نوع أسميه أنا ( فول ) فول بالعربي وليست فول الأمريكانية ..!
أي انه المادة الخام للعبط ..! 

كيف يقول بأنه لا أحد ينام في مثل هذا الوقت .. 
ثم يخبرني أن أكمل نومي ..! 

ما علينا .. إن رأسي ثقيل ـ دون نعاس ـ فما بالكم وأنا نائم حقاً ..! 
علي أن أكمل نومي الآن ، وبعدين بيفرجها الله 

* * * * * * ** * * * * * ** * * * * * ** * * * * * *

أخبرت زوجتي عن هذا ( الشحاد الاجتماعي ) وأنا أتناول إفطاري ـ وهو شيء بدأت أفعله مذ أقلعت عن التدخين ـ 
وكيف أنه من الواضح بأن ذلك الأبو عبد العزيز ( أو أياً كان المتصل ) لم يتصل ليطمئنني عليه ، بل ليستجدي زائراً فقط .! 
بدليل إخباري بالجناح الذي يرقد فيه ..! 


غمّست قطعة الخبز ، في زيت الزيتون ، ومررتها على صحن الزعتر الصغير ، ثم رفعتها إلى فمي على ( نية التوفيق ) .. 

إلا أن يدي تسمرت في مكانها بعد أن لمحت النظرة الجادة على وجه زوجتي ..! 

نظرة يشوبها شيء من الصرامة ، كتلك التي يرمقك بها والدك حين يقبضك وقد تخلفت عن الصلاة ..! 

أخبرتني ـ معاتبة ـ مجموعة من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام ،
تحث على زيارة المرضى ، ثم ساقت لي عدداً من فوائد عيادة المريض .! وأجرها الكبير عند الله .

أخبرتها أن ( جزاك الله خيراً ) 

لا بد وأنني بدوت في عينها ( زنديقاً ) وأنا أسخر ، بل وأعلن في وضوح أنني أفضل تحمل الاستماع إلى نشرة قناة الإخبارية ، على زيارة هذا الأحمق ..! 




* * * * * * ** * * * * * ** * * * * * ** * * * * * *

ناولتني الثوب الوحيد الذي أملكه ( مذ توقف جسمي عن النموّ ، وتوقف والدي عن شراء الأثواب لي ) لم أعد أشتري أي ثوبٍ جديد ..! 

إن هو إلا ثوب واحد أرتديه لصلاة الجمعة ، وللمناسبات الاجتماعية ..!

وبما أنني من الكائنات ( وحيدة الخلية ) ولا أحضر أي مناسبات اجتماعية ، فذلك يعني أن الثوب في حالة ممتازة ..!

أخبرتها ـ وقد أردت أن أظهر أمامها بمظهر الحنون الذي يهتم لأصدقائه ( الذين لا يعرفهم طبعاً ) : شو رأيك آخدلو معي هدية ..! 

هيك شي ( دبدوب ) صغير ..! 

أجابت ساخرة : شو رأيك تاخدلو لعبة ( فلّة ) مو أحسن ..! 


أردت أن أسألها إن كانت تسخر مني ، ثم تنبهت إلى أنه سؤال مبتذل ، 
لأنها ـ وهذا واضح ـ تسخر مني فعلاً ،

ثم إنها لن تجيب بالإيجاب أبداً ..! 

سألتها ـ وقد حاولت تصنع الجدية ـ : لا والله عنجد .. 
شو آخد معي هدية ..! 

أجابت : خود معك هيك شغلة حلوة تبين منها حجم تعاطفك معو ..! 


أخذت أردد : حجم تعاطفي ، حجم تعاطفي ..! 

شلون يعني ..! 

آخدلو ( تلاجة إل جي ) مثلاً .! 

رافقتني ـ مودعة ـ حتى الباب وهي تقول : هنيك بالمستشفى في محلات هدايا . نئّي ( بمعنى انتقي ) اللي بيعجبك 

* * * * * * ** * * * * * ** * * * * * ** * * * * * *


من الأسئلة الكونية التي تقض مضاجع علماء الفلك ( لماذا يحرّم على أي شخص يعود المريض أن يأخذ له هدية ليست ( وروداً ) .! 
ذلك سؤال بقي معلقاً يبحث عن مخترع فذ ليفك طلاسمه 

كل محلات الهدايا هناك تبيع الورود وبعض الشوكولاتة ـ على استحياء ـ ( الشقليط ) على حد تعبيري 

لم أجد محلاً ـ على سبيل المثال ـ يبيع ( كتباً ) أو ( لابتوبات ) ..! 
لأنني لو أردت أن أشتري ( لابتوب ) لما دفعت ذلك المبلغ المرعب الذي دفعته لشراء ثلاث وردات مصابات بالجفاف .! 

ولن تتنازل أي نحلة تحترم نفسها على الوقوف لتستجدي تلك الورود .! 


حرصت على أن يلفها البائع بأضخم غلاف بلاستيكي في الوجود ، لتبدو أكبر وأفخم .. 
ثم توكلت على الله وولجت إلى المستشفى ..! 


عرفت أن الجناح 402 في الدور الرابع حيث الأجنحة الخاصة ،
ومن ثم وقفت نصف ساعة لأتغلب على خوفي من المصاعد ..!

ثم نصف ساعة أخرى حتى يقرر طفلان ظريفان استخدما المصعد على سبيل ( الملاهي ) أن يكفا عن تسليتهما ..!

فقط حتى يأتي المصعد حاملاً رجلاً وامرأة ..

أمسك الرجل بدفة باب المصعد فيما يشبه قوله ( تفضل ) 

إلا أن عينيه كانتا تقولان بوضوح : ( جرّب حظك لو كنت رجال ) ..! 



بالطبع هذا ما فعلت ..




فضلت صعود الأدوار الأربعة على أن ( أكون رجال ) 


* * * * * ** * * * * * ** * * * * * ** * * * * * * 

عند الدرجة الأخيرة وقفت وقفة تشبه تلك التي يقفها ( جبراسيلاسيا ) 
البطل الأثيوبي الشهير عندما ينهي واحداً من مارثوناته المخيفة ..
انحنيت حتى كدت أمزق أوتار ظهري ..
واعتمدت على ركبتي الهزيلتين وأنا أتنفس بشكل يدعو للشفقة .. 

هرعت إلي واحدة من الممرضات الفلبينيات وقد ظنت أنني هالك لا محالة .. إلا أنني اعتدلت بصعوبة .. 
وأشرت ـ وأنا لا أتنفس تقريباً ـ إلى باقة الورد في يدي فيما معناه ( أنني زائر ) ..
إلا أنها اعتقدت أنني أطلب منها قبول هديتي المتواضعة 
( ألم أقل لكم تبدو علي مظاهر الزندقة ولا أعرف السبب ) ..
نظرت إلى باقة الورد في ازدراء ثم قالت ( من خشمها )
لا أقصد الغرور بل أقصد أنها تحدثت فبدا أن الصوت يخرج من ( خشمها ) فعلاً .. 
وقالت ( سلامات ) 
وهو المرادف الفلبيني لقولنا ( شكراً ) .. 
حمدت الله أنها لم ترق لها هديتي الثمينة ..! 

وتوجهت من فوري إلى الجناح المشئوم إياه ،، 

لأكتشف أنني قد حضرت متأخراً بالفعل .. 

إذ شاهدت ثلاثة أشخاص يسبقونني في الدخول .. 

حاول إبليس اللعين ثنيي عن هدفي السامي .. 
وكانت حجته أن الزائر الأول ( مواساة )
والثاني ( مؤازرة ) 
والثالث ( مجرد غبي متأخر عن زيارة ) ..! 

إلا أنني خزيته ودخلت إلى الجناح لأتفاجأ بأنني أمام أفخم جناح رأيته ـ أقول رأيته أنا ـ في حياتي ..! 


غرفتان ضخمتان جداً ، يفصل بينهما باب خشبي فخم ذو دفتين ..

خصصت الأولى لسرير ضخم يرقد عليه شخص أضخم ( لا بد وأنه صديقي الذي لا أعرفه )
وخصصت الغرفة الأخرى للضيوف ..! 
هؤلاء الذين لا بد وأنهم قد تجاوزوا الثلاثين ضيفاً ..! 

فوجئت بمن يمسك بذراعي ويأخذ مني ورودي الثمينة ( بقرف ) ثم يدلني على محل جلوسي ..! 

ما هذا التجمع الغريب ..! 
مجموعة هائلة من ( الفناجيل ) تدور على الضيوف ..!

شخصين أو ثلاثة يرتدون زياً موحداً يرتبون الضيوف في أماكنهم ..! ويتكفلون بواجب الضيافة ..


خمس أو ست ممرضات فلبينيات ( متماثلات ) كأنهن في دعاية لبطاريات ( إنرجايزر ) 
يقمن بأخذ العلامات الحيوية للضيف الذي لا تبدو على وجهه أي من علامات المرض ..! بل إننا جميعاً ـ دون مبالغة ـ نبدو أشد مرضاً منه ..! 

أخبرته ممرضة حسناء أن ( كلّو كويس ) ..!

ثم انصرفت وعلى وجهها ابتسامة وضاءة ..


لا أدري لماذا تخيلت أنني في بلاط واحدٍ من خلفاء بني الأحمر ..
وحوله الجواري .. في يوم استقباله للرعية ..! 
الأمر لا ينقصه إلا واحد من الشعراء إياهم يمتدح الأمير ، ( المريض ) 
فيأمر له بعشرة آلاف درهم ، وجاريتين ، ووايت موية ..! 

وكأنه يقرأ أفكاري .. 
قفز واحد من الضيوف المتحمسين ، وأخرج من جيبه مجموعة هائلة من القصاصات ..
لينتقي من بينها واحدة .. ويبدأ في صوت مبحوح يتلو ما فيها من أبيات ..!

قصيدة عادية جداً ـ لو بالغنا في المديح لقلنا أنها عادية ـ تنتهي بقافية تنتهي هي الأخرى بحرفي الياء والراء ..!

تنتهي بمقاطع على غرار ( قلبن كبير ) ( خيرن كثير ) ( عبدن فقير ) ..! 

نظر إلينا الشاعر بارتباك وقد تنبه ـ بعد أن قرأ خمسة أبيات من قصيدته العصماء ـ إلى أنه قد اختار القصيدة الخطأ ..!

وأن ما أسمعنا إياه كان يوفره لـيتسبب به أمام واحدٍ من الأمراء إياهم ..! 

أدخل القصاصة في جيبه بارتباك واضح وحاول إخراج قصيدة أخرى إلا أن الحاضرين كانوا قد صفقوا له في استحسان وإعجاب ..! 

لا بد وأنه ـ ولأول مرة ـ قد حمد الله كثيراً لأنه لم يكن أحد يستمع لأي من السخافات التي ينظمها ..! 


نظرت إلى المريض ( صديقي الذي زعلان لأنني لم أزره ) فلم يبد عليه أنه قد رآني على الإطلاق ..! 
وأنا الذي اعتقدت بأن زيارتي ( فرض عين ) وأنني سوف أجبر بخاطره لو حضرت ..! 
اكتشفت أن زيارتي مجرد ( فرض كفاية ) ..!

وواضح جداً أن العدد الذي سبقني قد كفى ووفى ..! 



حقاً إن عدم وجود أشخاص على الإطلاق يتشابه كثيراً مع وجود العديد من الأشخاص ..! أي أن عدم وجود الشيء يؤدي إلى نتيجة تشبه كثرة وجوده ..! 


نجدها دائماً مع ( فلاح ) الذي يدخن الحشيشة برفقة ( رامي ) ..! 
أحدهما لا يملك قوت يومه .. 
والآخر يكفي مصروفه اليومي لشراء بلاطة حشيش ضخمة ..! 

الفقر الشديد مع الثراء الفاحش يؤديان إلى نفس الطريق ..! 

أنا ليس لدي أي أصدقاء ..!
عدم وجود البشر حولي أدى إلى كرهي للبشر لدرجة تدعوني إلى ( الخوف ) منهم ..!
أما هذا الصديق ( الذي زعلان مني لأنني لم أزره ) فكثرة وجود البشر جعلته يكرههم لدرجة تدعوه إلى ( احتقارهم ) وعدم الشعور بوجودهم ..! 

بعض من رغبوا في الانصراف توجهوا ناحية صديقي ( الذي زعلان مني لأنني لم أزره ) وقبلوا رأسه ثم انصرفوا ..! 

ولأنني شعرت بأن الجو خانق ،
يكتم على روحي حتى لتوشك على الخروج من أذني ..
فقد قررت أن أنسحب بصمت ..! 

حاولت التوجه إلى الباب ، إلا أن شيئاً أضخم مني قد منعني،
رغبة خفية حركتني لأنضم لطابور المغادرين الراغبين في السلام على صديقي ( الذي زعلان مني لأنني لم أزره ) ..! 

وقفت معهم أنتظر دوري ..
ثم ولدهشتي الشديدة ـ بعد أن أصبحت عنده ـ ، 

وجدتني أنحني على جبينه مقبلاً إياه في حنان شديد ..! 

دمعة لعينة خائنة ، غدرت بي وسالت على خدي ..! 

بالكاد استطعت أن أمنع نفسي من الانهيار على ركبته باكياً ...!!!



ما هذا ..!! 

بعد أن وصلت إلى الباب تذكرت تجربة قام بها عالم نفس شهير ـ نسيت اسمه ـ 
حيث قام بوضع أربعة من أعوانه في مصعد ،، 

وقد جلسوا جميعاً في وضع القرفصاء ، 
ووضعوا أيديهم فوق رؤوسهم ..!

في البداية كان من يدخل إلى المصعد ينظر لهم باستغراب ..! 
بل ويضحك ساخراً ..!

ثم وبمجرد أن تغلق الأبواب يجد نفسه وقد اتخذ نفس الوضعية ،
وقام بحماية رأسه بيديه ..! 


وهو ما جعل العالم يخرج باستنتاج مفاده أن أربعة أشخاص أغبياء ، يتصرفون تصرفات أشد غباء ، كفيلة بجعلك تتصرف بذات الغباء حتى ولو لم تكن مقتنعاً ..! 

هذه سطوة التصرفات الجماعية ، العلاقات البشرية ، الاجتماعية ..!

وحتى لا أكون قاسياً على صديقي ، 
ذلك ( الذي زعلان مني لأنني لم أزره )

أقول : بأننا نحن من نمنح هؤلاء الأشخاص قيمتهم الكاذبة ..! 
المتسولون باختلاف تخصصاتهم ..! 
نحن من نعزز غريزة التسول في أعماقهم ..! 


أنا أتسول احترامي لذاتي من خلال نظرة الآخرين لي ..!

صديقي ( الذي زعلان مني لأنني لم أزره ) يتسول تعاطف الآخرين له من خلال ادعائه المرض ..!
هذا الشاعر الذي تغنى بقصيدته يتسول المال عن طريق إسماع بعض الأمراء ،بعض الكلام الفارغ ..!
الذين لا يعجبهم ـ غالباً ـ ..!
ولا يصدقونه ولا يشترونه بقرش ..
لكنهم يجدون أنفسهم مضطرين ـ بالتالي ـ لتسول ( الوجاهة ، والمظهر الاجتماعي البراق ) من خلال دفعهم مبالغ لذلك الشاعر ..! 


ولم أخرج من بوابة المستشفى إلا وقد توصلت إلى قناعة ..! 

ببساطة .. 


نحن جميعاً متسولون .. في أرض الله 






عمل الطالب : ابن أبي فداغة المتسول

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق