السبت، 25 مايو 2013

البيض كلُّه في سلّةٍ واحدة .!!

..
.


الحمد لله أنني لست همنغواي .. 
أديب أمريكا العظيم ..
يقولون بأنه انتحر لأن الإبداع لم يعد يزره ، ففضل الموت باختياره ، على أن ينضب !
يقولون ـ أيضاً ـ بأنه كان يعيش لكي يكتب .! 
أي أنه فقد علاقته الوحيدة والجميلة بالحياة ، ففضل الرحيل ..
أما من يكتب ليعيش ، فليس لديه مشكلة ، قد يكون تارة واعظاً ، يحث الناس على الطاعات .! 
وقد يكون منظِّراً يرتدي عباءة العالم ببواطن الأمور ، قد يصبح محرراً رياضياً ، أو فنياً .! 
قد يفعل أي شيء ليعيش .! 

أنا لست من الشق الأول ..
لست من العظماء الذين يقلقهم أمر إبداعهم ،
والذين يؤرقهم الحفاظ على مستوى أعمالهم ، 
لست نجيب محفوظ الذي اعتزل ـ أول مرة ـ بعد كتابته للثلاثية .!
ولست ميخائيل نعيمة ..
الذي خشي أن يؤثر السن على إبداعه ..
فاعتزل ..

لا تقلقني قضية التكرار ، والخمول ، والنضوب ، والخوف المزمن من الحفاظ على المستوى ، 

كنت قد قرأت رأي المبدع حسن طلب : يقول قد يتظاهر الكاتب بالاعتزال أمام نفسه وكأنه يحتج على مستواه المتدني ، إذا خذله إبداعه .. وكأنه يتدلل على إبداعه !!


طبعاً مع احترامي للأشياء هذا كلام فاضي ، طيب واحد تدلل على إبداعه وإبداعه طنّشه .!
هل ينتحر مثلما فعل هامنجواي !!

حسناً .. 
كنت أقول بأنني لست من الشق الأول ..

كذلك لست من الشق الثاني .. 
الذي يكتب ليعيش ..
الذي من الممكن أن يغير قناعاته ، ويتحكم بقياسات مبادئه كلما دعته الحاجة ..
والذي يحمل قضاياه وهمومه في شنطة .. 
كلما ارتفعت أسهم قضية أخرج ملفها من الشنطة وتاجر بها .!!


المسألة بكل صراحة ..
مسألة بيض .!

الكتابة ـ بالنسبة لي ـ مسألة بيض .!
أكسر كل بيضة في طبق منفصل .!

البيضة الفاسدة ، ترمى ، هكذا بكل بساطة .!!
الأمر لا يستأهل القلق ..
ليست نهاية العالم أن تكون بيضتك غير قابلة للأكل !!

والبيضة الجيدة تكون وجبة مباركة .!
ليس بالضرورة دسمة ، قد تصنع منها الذائقة الجيدة طبق عجة محترم ، 
والذائقة المتحذلقة تحولها لطبق أومليت يفتخر بذاته ..
والذائقة العربجية تحولها لطبق بيض بالشطة ..

هو مجرد بيض في النهاية .!!

ما الذي سوف يحصل إذا وضع كل البيض في سلة واحدة ..

نكاية بالنصيحة الأزلية ، 

لا تخاطر ..


لا تضع كل البيض في سلة واحدة ..



كنت ـ ولا زلت ـ أكره قضية التفاحة التي تفسد غيرها من التفاح .!
دائماً يقولون : ماذا يحصل يا شاطر لو تركت تفاحة فاسدة في صندوق تفاح جيد !!
سوف يفسد باقي التفاح طبعاً .!
لذلك من الأفضل أن تعزل التفاحة الفاسدة ..

طيب لو رمينا التفاحة الفاسدة ، وتركنا باقي التفاح ألن يفسد بدوره !!
يعني التفاحة الفاسدة مالها ذنب ، يعني ما قد سمعت في حياتي عن تفاح يعدي غيره ..
هل يا ترى البيض له نفس المبادئ .!! 
ويتعامل بنفس الكيفية ..

هل لو وضعت البيض كلّه في سلة واحدة سوف ينكسر البيض كله ..
أم تفسد بيضة واحدة كل البيض الباقي ..



لا أعرف ..


سوف أجرب ، ونترك الحكم لحضراتكم في النهاية 


البيضة الأولى 





المظهر .. أبو النجاة 






..
.


إنها جميلة ..



لا أعرف إن كانت طويلة حقاً ،

أم أنه ذاك الحذاء الجلدي الفاخر ذو العنق الطويل والكعب العالي هو السبب ..



صحيح أيضاً أنها ترتدي نظارة شمسية كبيرة تخفي ثلثي وجهها ، 

وتضع غطاء رأس ، يظهر النصف الأمامي من شعرها ، ذاك الذي حرصت على تزيينه بخصلاتٍ ذهبية شاحبة ، 

حولت شعرها إلى شيء يشبه أسلاك الدوائر الألكترونية في تلفاز ياباني قديم ، 

و لكنها ـ بالرغم من ذلك ـ جميلة .! 



وصحيح أيضاً ، أن النظارة الهائلة توشك على سحق أنفها ، وأنه لم يظهر من وجهها إلا فكها السفلي .! 

لكنها بالرغم من ذلك جميلة .. 



وأعتقد بأنها ـ بقليل من الخيال ـ تشبه ممثلة لبنانية تمثل في الأفلام المصرية .. 



صارحت صديقي بذلك ، 

وسألته: ألا تشبه الممثلة اللبنانية التي مثلت في فلم شورت وفنيلة وكاب ؟



أجاب: تقصد نور ؟



ميزت نبرة احتجاج واضحة في صوته، مما جعلني أستدرك :



لا أقصد بأن نور جميلة أقول فقط بأن هذه تشبهها .! 



نظر إلي نظرة استنكار ثم قال : بل نور جميلة حقاً ، لكن هذه لا تشبهها على الإطلاق .! 



إنها عادية ، كل ما في الأمر أنك ـ وبمجرد دخولك لحديقة الحيوان ـ

تصبح هشاُ قابلاً لأن تحب أي شيء ، هذا الجو الحقيقي ، سحر الطبيعة ، يؤثر فيك ! 





قلت له مؤيداً : أي والله ، أنا على استعداد تام لأن أحب أنثى الفقمة لو رأيتها في هذا الجو الساحر .!



طيور عديدة بعضها يغرد وبعضها يشقشق ويزقزق ، خليط من القرود والكناري والذئاب والأسود ، والأشجار والماء والهواء البارد المنعش .! 







وأنا ـ بالكاد ـ أقاوم رغبة عارمة بأن أقفز بملابسي في نافورة المياه هذه .! 



استطرد قائلاً : ثم من الواضح جداً أنها تمثل .! إنها تعرف أن هناك من يسترق النظر .! 



نظرت إلى الفتاة الفاتنة ( العادية ) 



فوجدت أنها فعلاً تمثل ، إنها تمشي بتلك الطريقة التي يصورون بها الفتيات الحالمات بالسينما .! 



كل خطوتين تنظر إلى الأعلى ، ثم تمشي بأن تقاطع بين قدميها وكأنها سارحة ، تتظاهر بالشرود والنظر إلى السماء .! 



هذه فتاة تعرف أنها ـ بطبيعة الحال ـ تحت أنظار الشباب الحمقى .! 



أنا لا أبدو كالشباب أبداً ، لكني بالتأكيد أبدو كالحمقى .! 



إذن هي تعرف أن هناك غير واحد يراقبها ، فاستمتعت بأداء الدور .! 



مرّ بجانبها طفل صغير يتدلى لسانه خارج فمه سامحاً للعابه أن يعبر عن شعوره ، ويسيل مخاطه على شفته العليا ،
فلم تمنع نفسها من أن تربت على رأسه من باب الـ ( ياي يا دلبو ) ، ثم أخرجت منديلاً من حقيبتها ومسحت المصائب التي تسيل من فتحات وجهه الخمسة .!

ثم أطلقته وهي تحرسه بنظراتها الحالمة .! 





....
...




مجتمعنا العربي يجبر كل من يعيش فيه على أن يكون لهم ( مظهر ) ..

إن المظاهر هي أقصر طريق نحو الكمال .. 



نحن لا نسعى لأن نكون حضاريين ومثقفين وواعين ومنفتحين ، 

لأن السعي متعب ، لذلك نتظاهر بأننا كذلك .! 



من الجميل أن يكون المجتمع متنوعاً ، خليطاً من المتشددين والوسطيين والليبراليين والوجوديين والدشير واللاشيئيين .! 



لكني ـ وحتى هذه اللحظة ـ لم أصادف شيئاً أصلياً حقيقياً يصلح لأن يكون أنموذجاً لما سبق ذكره .! 



المتشدد الحالي ليس متشدداً حقيقياً ، أي أنه ليس متمسكاً برأيه ولا يرغب حقيقة بالتخلي عنه !

هو مجرد كسلٍ فكري .. 

مجرد شخص تبنى أول رأي سمعه ، ومن الصعوبة أن يتنازل عن هذا الرأي مقابل أي رأي آخر ، 
ما لم يصدر من نفس الجهة المسئولة عن رأيه الأول ! 



ولم أصادف ليبرالياً حقيقياً .! 

هم مجرد أشخاص يقولون بأنهم كذلك .!







هناك أحمق يعتقد بأن اسم المرأة عورة .! 



أحمق آخر ، و حتى يثبت له أن اسم المرأة ليس كذلك ـ وهو رأي صائب على فكرة ـ 
فإنه يذكر اسم ابنة خالته في أكثر من عشر مقالات !! 

يعني الله يستر على صفاء ، يا أخي الله يخليها لزوجها ولكم ولكل من يهمه أمرها .! 



فهمنا أنها رائدة ما أدري وشو ، والسبب أنها تخلصت من العبودية والنمطية والتبعية وتزوجت عن طريق الهوتميل مدري الياهو .! 



فأصبحت بطلة قومية ، ولا أستبعد لو رشحها ذلك الطبل لتنال جائزة نوبل للمسنجر .! 



أنا أحترمها ً ، مع أني لا أعرفها ، لكني فقط أشفق عليها أن لديها قريب بهذه العقلية .!! 





ليس الحل في الابتذال .! 





هذا تظاهر ، ليس تصرفاً حقيقياً على الإطلاق .! 



..

.




إنهم يفوقون الجراد عدداً ، يصدعون رأسك بالحديث عن الانفتاح والحريات والتقدم ، يتظاهرون بالتمرد على المألوف ، 
وفي حبهم لنموذج المرأة الـ ( تفّ ) المعتمدة على ذاتها ، المتخلصة من تبعيتها للرجل ، المحاربة للنمطية ، لا يريد امرأة أقصى طموحها أن تغسل ملابسه المتسخة .! 





ثم عندما تأتي ساعة الحقيقة ..

يسارع لخطبة ابنة السادسة عشر ، التي للتو انتهت من دراستها المتوسطة .!! 

أو بصحيح العبارة ليس لها تجارب .!





لو لم يمثل الرجل ، لما مثلت المرأة .! 

إن تظاهرنا بحبنا للمرأة الصلفة ، الجلفة ، الاستقلالية ، التي تناطح الرجل رأساً برأس ، لكنها بنفس الوقت مثقفة وخيالية وحالمة ، أفرز جيلاً من الفتيات ، هن خاويات قطعاً ، يتظاهرن في كل شيء .! 



هي لا تحب الشعر على الإطلاق ، ولا الخواطر ..

لكنها تعرف أن من صفات المرأة العصرية أن تقرأ الشعر وتحبه ..

وأن تكتب الخواطر .! 

كل النساء الحالمات الخياليات يحببن الشعر ، ويكتبن خواطرهن .. 

وهي كذلك .! 



هي مهذبة وخلوقة ، لكنها تعرف أنها تبيع بضاعة لن يشتريها أحد ، لذلك تتظاهر بالبذاءة ، تتحدث بمفردات السوقة وألفاظهم .! 



إنها تعرف أن الرجل ، أي رجل ، لا يستطيع مقاومة الفتاة التي تتمتع بالمواصفات القياسية السابقة ،
لكنها لا تكتفي بذلك ، إن الضربة القاضية قادمة ، كم هائل من الحنان الدفين ، تظهره من خلال كتابتها للخواطر .! 



إذن هذه امرأة محترمة ، قوية وصارمة ، ترفض أن تتاجر بأنوثتها ، وأن تتغنج بسبب ودون سبب .! 

وهي تخفي كل هذه المشاعر الجياشة لأنها ترفض المياعة والابتذال .! 











إننا لا نكف عن التظاهر ، في كل تفاصيل حياتنا ، كل خلجة بحسابها ، كل نفسٍ بمقياس .. 

كل فعل بدراسة ، كل انفعال بتأني .! 



ثم نزعم بأن هذه هي جوانب شخصياتنا الحقيقية ، وأننا على سجيتنا .. 





والنتيجة هي أننا لن نحصل على أي شيء حقيقي ، 



لا على وسطي وسطي ، 

ولا على ليبرالي ليبرالي ،

ولا على متشدد متشدد حقاً ، 



ولا حتى على داشر داشر فعلاً !!!


البيضة الثانية 




من نوادر الأفدغ الكبير 










من نوادره حفظه الله ، أنه كان لديه صديق مقرب ، هو له بمنزلة الأخ ، 
يدعى ( أبا كعكة ) 
وقد كان أحمقاً ، ناقص عقل ، وكان ذا حشيشة .. أي أبا كعكة .. 
وقولنا عن أبي كعكة أنه ذو حشيشة لا يبرئ ساحة الأفدغ الكبير ،
فقد كان امرءاً حشاشاً كذلك ، لكننا بصدد سرد قصة أبي كعكة هنا ..

فقد هام أبو كعكة بابنة عم له ، 
وتمكن حبها من قلبه ، 
وملكت عليه فؤاده ، 
وحرمته نوم ليله ، 
وقد عزم على أن يخطبها من أبيها ـ وهو عمه ـ 
ولكنه اشترط عليه أن يجلب له جاهة ، 
لعلم عمه بسوء خلقه ، وفحش قوله ، وقبح أفعاله ، 
تيقن أنه لن يتمكن من توفير الجاهة المناسبة ، 
فهو بذلك ( يزحلقه ) دون أن يجرح شعوره ، أو ينال من كرامته ،
هذا ما كان من أمر عمه ..



أما ما كان من أمر أبي كعكة ، فقد جاب أنحاء المدينة ، 

ولم يبق باب إلا طرقه ، 
مستجدياً أهل بيته الجاهة ،
لكنه قوبل بالازدراء والاحتقار ، 
حتى لم يتبق له إلا باب صاحبه الأفدغ ، 
وهو صاحب السيرة العفنة بين الناس ، 
فطرق بابه ( مجبراً ) وناشده بحق أيام الأنس ، 
وجلسات الحشيش ، إلا أن يساعده في أمره هذا ، 
فرفض الأفدغ الكبير وقال : إن عمك يكرهني ، وليس بيني وبينه إلا العداوة والخصام ،
فكيف تستعين بي لقضاء حاجة عنده ؟
فأجابه أبو كعكة : أما والله إني أعلم أن بينك وبين عمي عداوة كتلك التي بين الزيت والنار ،
ولكنه لم يحدد اسماً بعينه حتى أصحبه ، لذلك أعتقد أنك تصلح لأن تكون جاهة .! 


ارتدى الأفدغ الكبير منامته ( فقد كان حفظه الله يخرج إلى الناس بالمنامة ، وينام بالثوب ) وخرج ليصحبه ..

إلا أن أبا كعكة ـ لفرط حمقه ـ سأل الأفدغ : لو سئلت عني فما أنت قائل ؟

قال الأفدغ : رغم إيماني الشديد بأنه لا قيمة لقالي إلا أنني سوف أشهد لك بريادة المساجد ، ودماثة الخلق ، ونقاء السريرة ، وحسن السيرة .!

قاطعة أبو كعكة قائلاً : ويحك ، إنك إنما تشهد بالزور عند من يعرف عني ما تعرفه الملائكة المقربون .! وهل نسيت أنه عمي ، وأنني كنت ربيباً عنده .! 

فهو والله يتيقن أنك منافق كاذب رخيص . فتهدم ما أردت بنائه .!


تحير الأفدغ وقال : إني والله لم أكذب من قبل ، وليس لي في نسب عمك حاجة ، 
إنما أردت أن أحمل وزر الكذب ، لأنال به رضاك ، وأحفظ به قربك .! 
وأنا ـ إن شئتَ ـ أقول : أنك امرؤ صاحب مزاج ، لا تغادر السيجارة يدك إلا لتحضن فمك ، 
وأنك لم تشاهد في حياتك سور المسجد إلا وأنت ذاهب لقضاء حاجتك في حماماته ..!


فزع أبو كعكة وأخذ يولول مثل النسوان وقال له : فأنت والله عدوي ولست صاحبي إن قلت هذا .! 

أسقط بيد الأفدغ ، وضرب كفاً بكف وقال : إذن أصمت .! 
وهذا والله ما لا أطيق .! 
ولا أظن أنك تصحبني من بيتي لأصمت في حضرة عمك .!! 

تعلق أبو كعكة بملابس الأفدغ وهو موشك على البكاء وقال : أرجوك يا صاحبي ، 
والله إنك إن صمتّ في حضرة عمي ولم تجب عن أسئلته لأكافئنك بما تشتهي نفسك ، ويطيب خاطرك .

فكر الأفدغ ، ثم قال في نفسه : هذا والله أحمق ، ولم أحسن لنفسي حين أردت تلبية طلبه ،
ثم اهتدى لحل ، فقال : وهل تلبي أي شيء أطلبه إن أنا ذهبت معك إلى دار عمك وصمتت ؟؟

نهض أبو كعكة واقفاً وهو يقول : نعم ورب البيت ، ألبي لك كل ما تطلب .!

أجابه الأفدغ : إذن أنا أذهب معك إلى دار عمك وأبقى صامتاً ،
شرط أن تتركني هنا في داري ولا تأخذني معك إلى دار عمك .! فما قولك ؟؟

تهللت أسارير أبي كعكة ، 
وفرح فرحاً شديداً وقال : أشكرك يا صاحبي ، 
إنك والله خير صديق ،
أما وقد وعدتني أن تبقى صامتاً في بيت عمي ، 
فأنا أكافيك على فعلك ذلك ، ولا آخذك إلى بيته ، ولك مني الشكر والعرفان .!! 

ثم عانقه عناق محب لمحبوبه ، وغادره وهو يتقافز فرحاً ، 
فما كان من الأفدغ إلا أن تحمّد الله على العافية ، 
وقال : يا ربي إنك تعافيه ولا تبلانا

...
..


ومن نوادره حفظه الله أن صاحب الغرفة التي أجرها منه قد طرده طردة الكلاب ..
ذلك أنه قد تأخر عن دفع أجرة تلك الغرفة القذرة ،
فما كان منه إلا أن طرق الباب على الأفدغ أولاً ! ( فطنشه ولم يعبِّر أهله ) ،
فاضطر صاحب الدار إلى أن يكسر الباب عليه ،
فوجده مرتدياً ثوبه وكأنه يهم بالخروج ! فغضب الأفدغ كثيراً ، 
لأنه ـ في حقيقة الأمر ـ كان على وشك النوم ،
وللتو تمكن من مخادعة النعاس ، لأنه كان يظن ـ حفظه الله ـ أنه إذ يرتدي ملابسه كاملة فإنه يخدع النوم فيوهمه أنه خارج ، حتى يغافله ويتمكن منه .! 

سلم صاحب الدار على الأفدغ وقال له : 
يا طيب ، هذه الدار لك ، وأنت سوف تهبها لي .!
فأجابه الأفدغ ـ إمعاناً في الاستعباط ـ :
بل هي دارك ، وأنا استأجرتها منك ، فإن شئت وهبتني إياها حتى تصبح لي ، 
فأهبها لك عن طيب خاطر .! 

صعد الدم إلى رأس صاحب الدار وصرخ قائلاً : 
يا أفدغ ، إن أنت لم تدفع لي الأجرة ! فأنا مضطر والله لإخراجك من الدار .!! 

رد عليه الأفدغ : لماذا تخاطبني بهذه الطريقة ؟
وكأنني لم أدفع لك قط .! لقد كنت منتظماً ، وحريصاً على أن أدفع لك حقك أول كل شهر ، 
ولكنني تخلفت عن ذلك في الأشهر الثمانية الأخيرة فقط .!!


سحب نفساً عميقاً ثم كتمه وهو موشك على الانفجار ورد عليه من بين أسنانه قائلاً :
ولكنك أجرت هذه الغرفة منذ ثمانية أشهر فقط .! يعني ( تكنكلي يو بيي مي نثنق ) 

وهكذا نجد الأفدغ يجوب أزقة المدينة الضيقة ، 
ممسكاً شيشته الأثيرة بيده اليمنى ، قابضاً صرّة ملابسه بيده الأخرى ، 
تلتمع صلعته الفاخرة تحت أشعة الشمس ،
فرقّ لمنظره قلب إمام المسجد ( الموظف ) وهب لنجدته ، 
وقد بدا له الأفدغ أقرب ما يكون إلى قط أجربٍ مبلل ، 
فتوجس الأفدغ في نفسه خيفة ، فهو لم يعتد أن يثق بأي رجل دين بصفة حكومية ، 
فهو لا يتخيل مثلاً أن يفتي المفتي بين الناس ويتقاضى أجر فتواه من الحاكم !!
أو أن يسير المحتسب في الأسواق يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر ثم يمد يده آخر النهار ليقبض حفنة من الريالات نظير حثه الناس على الصلاة .! 
أو جراء نهره الشباب عن التجمهر !! 
وقد كان يحب المحتسبين والمتطوعين كما خلقهم الله ، 
من يتبرع ليؤذن في الناس دون أجر ،
ومن يبين لهم أمور دينهم دون جزاء .!
نقول أنه لم يثق كثيراً بهذا الإمام ،
لكنه كان مضطراً لأن يقبل بأي إحسان من أي إنسان ،
لأنه كان في أشد الحاجة لمكان يقيه هذا الحر القائظ ، ويحميه من أشعة الشمس الحاقدة ! 


وهكذا استقر به المقام في مخزن صغير بجانب المسجد خصص للاحتفاظ بأغراض التنظيف ، 
وقد كان هذا القرب الشديد من بيت الله سبباً مباشراً لأن يلين قلبه ،
وبدأ يحافظ على الصلاة شيئاً فشيئاً ، 
ويستمع إلى بعض العامة ممن يتبرعون لوعظ الناس بعد كل صلاة ، 
بعضهم كان يخيف الناس من العذاب ويردد آيات الوعيد بصوتٍ مخيف ، 
مع إخلالٍ فظيع بأحكام التجويد .! 
والبعض الآخر يردد أحاديث المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، 
دون أن يحفظها ، فيسردها كلها بالمعنى ، الحقيقة أنه يبين ذلك حين يقول :
أو كما قال عليه الصلاة والسلام ، لكنه لا يعذر في جهله بكل الأحاديث ، 
كان الأولى به أن يتمكن من حفظه ، ثم يخرج على الناس !

نقول أن الأفدغ كان يعود إلى مخزنه ، فيعد لنفسه رأساً من الجراك ،
ثم يستمع للمتحدثين شبه نائم ،
وقد كان قد أوشك على التوبة من الشيشة حين سمع حديثاً للرسول صلى الله عليه وسلم ، 

جعله يفز من فوره ويهرع إلى إمام المسجد ليمسكه من تلابيبه ويسأله :
ألم يقل صلى الله عليه وسلم من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا! 

قال نعم . قال : ومن يقتل نفسه بالشيشة ، فهل شيشته معه في جهنم يشتاش بها ؟ 

تلعثم الإمام قليلاً ، لكنه ـ على ما يبدو ـ لم يرغب بقول لا أعلم ، 

فقال : من باب أنها تدخل ضمن قتل النفس فأعتقد بأنه نعم .! 



تهللت أسارير الأفدغ ، وابتسم ابتسامة مرعبة ثم قال : وأنا الأحمق أوشكت أن أتوب عن الشيشة .!! 


البيضة الثالثة .. والأخيرة


زمان يا فن 



هذه مقارنة بسيطة بين الفن في الماضي ، وبين الفن في الوقت الحالي ..




كان الفنان لا يقع في الرذيلة إلا بعد الاستسلام لمغريات الفن ومقتضياته ، 
يبدأ فناناً ثم يتعرف إلى أوكار الفساد ، والخمور ، والمكيفات من حشيش وبانقو وغيرها .. 

أما الآن فإنه يعرف الفن عن طريق الفساد ، 
يبدأ منحلاً سكراناً حشاشاً ، مرتاداً لأوكار الفساد ، 
ثم يتعرف على مخرج ما ـ ممن ينهون حياتهم هناك ـ فيأخذه معه إلى عالم الفن .. 

...

لم يكن مخرجو المسلسلات القديمة يراعون نزعة العنف والساديّة في أعماقنا .. فكنت تتضايق كثيراً عندما تشاهد لقطة يصفع بها الفنان زميلته الفنانة ، وتكاد تقسم بالله أن يده لم تلمس خدها ، لكن ـ بالرغم من ذلك ـ يستجيب وجهها للصفعة ويذهب عكس اليد التي ..! 

أما الآن فإنك تشفق على الفنانة وأنت تشاهد زميلها وهو يكيل لها الصفعات واللكمات ويجرها على الأرض من شعرها .! وتشاهدها وهي تطلق صرخات الألم الحقيقية .! والمخرج يتابع اللقطة في استمتاع سادي عجيب .! 
( لقطة حسين المنصور وزهرة الخرجي في مسلسل نسيت اسمه ) 

هل المخرج معقد ؟
أم الممثل هو المعقد .!
أم حنا اللي معقدين .!!
والله ما تدري 

...

كانت المسلسلات تناقش المشاكل الاجتماعية الحقيقية والملموسة بشكل خفيف محبب ، وبقالب درامي تلقائي ، 
وبأداء بسيط غير متكلف ،
وبإضفاء لمسة كوميدية على الأجواء لمنح المسلسل جواز سفر دبلوماسي للعبور لقلب المتلقي .. 
في خالتي قماشة نوقشت قضية العائلة الكبيرة ، الحماية والكنّة ،
سيطرة المبادئ الجامدة على الأفكار الحرة والمتمردة ، 
الأخ الأكبر الذي يراقب ويشاهد ويعرف كل شيء ويضيق الخناق على أنفاسك ، ومناقشتها لأول مرة على شاشة التلفاز 

أما الآن فأصبحت المسلسلات تناقش الجنس والفحش والرذيلة والشذوذ ، 
متظاهرين بأن هذا هو الواقع الضخم والحقيقي والواضح ، 
وأنه هو الوحش الذي ينهش لحوم مجتمعاتنا .!! 
وأننا مجرد حمقى لا نعرف خفايا مجتمعنا وتفاصيله الدقيقة .! 
ويحاولون إقناعنا أنهم يجاهدون لكشف الستر عن المسكوت عنه لدينا .!! 
وإذا ما أراد أحد ما أن يلقمهم حجراً ..
ليكفوا عن غيهم وفسادهم .! 
انبرى واحد من الكتاب أو النقاد إياهم وقال لك :بأنهم لا يأتون بالمشاكل من بنات أفكارهم .! أليست هذه مشاكل حقيقية ؟؟
ويأتيك ناقد يتشدق بالشفافية ليقول : بأننا لسنا مدينة أفلاطون الفاضلة ، 
وكفانا جبناً كالنعام ( علماً بأن النعام ليس كما يصورونه في الرسوم المتحركة يخفي رأسه جبناً ، بل بحثاً عن الحشرات ) وأننا ندفن رأسنا عن واقعنا .! 


والحقيقة عكس ما زعموا طبعاً ..
هم النعام ، هم من يدفنون رئوسهم في أوسخ بقع المجتمع وأشدها ظلمة ،
للبحث عن الدود والحشرات .!! 

فهم لا يحاكون مشاكل المجتمع في طرحهم مثلما يقال .!! 
بل هم يعلّبون لنا قضية ، ويمنحون المجتمع مشكلة جاهزة ليحاكيها هو
( أي المجتمع ) .! 

وهذه المشكلة الأزلية تمت مناقشتها غير مرة ،
والتطرق لها كثيراً .! 
هل كان نجوم السينما المصرية في أوج عزها يقلدون الشباب .! 
أم يمنحون الشباب نموذجاً ليقلدوه .!! 

وهو ما اعترف به الداعية حسن يوسف غفر الله له 


زمان والآن مع بعض 

النقطة الأولى : 

السطحية العجيبة في معالجة الصراع الأزلي بين الخير والشر .. 
لم يخلق بعد ذاك المخرج المحترم .. 
الذي بدوره يحترم عقلية المشاهد العربي ( يعني المشاهد العربي يستحق الاحترام أصلاً ) ويعرض لنا مسلسلاً واحداً فقط لا ينتصر فيه الخير في الحلقة الأخيرة ) 

الخير ينتصر في النهاية بشكل ساذج على النحو التالي :

1 ـ تتحسن أمور البطل فجأة :
يصبح مليونيراً ، أو ينجح في شغله أو دراسته ، وبنفس الوقت تسوء أمور الشرير .

2 ـ عقوبة إلهية شنيعة للشرير :
فإما أن تصيب يده الغرغرينا أو يسقط من فوق رصيف ويضرب رأسه بالأرض ويصيبه الشلل ، أو يصاب بفشل كلوي . 

3 ـ الشرير يتوب : فجأة ـ وعلى عكس خط سير العمل ـ يقرر الشرير أن الوقت قد آن للتوبة .! طيب متعبنا معاك ثلاثين حلقة ليش .! يكون مستيقظاً ـ هو وضميره في وقتٍ واحد ـ ويسمع أذان الفجر ( لا أعرف هل انشقت الأرض وخرج منها المسجد فجأة ، أم أن الشرير قد غير محل إقامته ليجاور المسجد .. لأن هذه أول مرة يؤذن فيها للصلاة في المسلسل ) ثم يذهب للصلاة ويتوب ، ويعيد الحقوق لأصحابها . 

النقطة الثانية : 

كل شيء للحلقة الأخيرة : 
النهاية السعيدة أو التعيسة ، زواج مشاري ولمياء ، التفجير السخيف في مسلسل الحور العين ( الذي كان هو أصلاً محور العمل ) إذن ما هو دور الحلقات التسع والعشرون .! 
لا شيء طبعاً إلا أننا لن نستطيع الوصول إلى الحلقة الأخيرة بدونها .! 





انتهى ؛

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق