في منزله الصغير في حلب ، أخذ المتنبي يدور في محله كنمرٍ جريح وهو يخاطب خادمه
( مفلح ) :
ـ تباً له ، أنا من صنعت مجده ، هكذا يجازيني .!
( مفلح ) ـ هممممم
( المتنبي ) ـ لم يسبق وأن امتدحه أحد كما فعلت ، حوالى المائة قصيدة !
لن يذكره التاريخ إلا لأنني قررت مدحه !
( مفلح ) ـ هممممممم
( المتنبي ) ـ سيف الدولة يا ابن **** ( شتيمة تتحدث عن ـ المرحومة ـ أم سيف الدولة بكلام بذيئ فاحش )
لقد نال مني الوشاة عندك ولم تدافع عني !
( مفلح ) ــ همممممم
( المتنبي ) ـ :
( بيني وبينك ألف واشٍ ينعب ** فعلام أسهب في الغناء وأطنب
صوتي يضيع ولا تحس برجعه ** ولقد عهدتك حين أنشد تطرب )
( مفلح ) ـ همممممم
( المتنبي ) ـ مفلح يا ابن **** بماذا أنت منشغل عني يا **** ؟
( يا حب ذا الآدمي للشتايم )
( التفت إليه مفلح وقد تنبه لثورة سيده ، تلك الثورة التي لا يقصد بها أن يشتم سيف الدولة لأنه يحبه حقاً ، بل هو يشعر بأنه لم ينل ما يستحق فقط ويريد أن يعبر عن ذلك ) !
( مفلح ) ـ يقول كلاماً كثيراً على غرار ( أنت الكبير ، بكرة يعرف قيمتك ) !
والحقيقة أنه كان يعرف قيمة سيده جيداً ، هو يمدح لأجل المنصب والجاه والسلطة ، وسيف الدولة يرى بأن هذا الكلام الفارغ لا يساوي أكثر من حفنة من الدنانير ، مفلح خير من يعلم أن ذلك ليس صحيحاً على الإطلاق ..
، لأن التاريخ سوف يخلد سيف الدولة كأشهر حكام الدولة الحمدانية بسبب قصائد المتنبي فقط )
( مفلح ) ـ ما الذي حصل يا سيدي !
ألم يجزل لك العطاء في هذه المرة ؟
المتنبي ـ تباً لعطائه ، إن المال يشتري الدور ، يشتري الجواري ، يشتري الخدم الأغبياء ممن هم على شاكلتك ، لكنه لا يشبع طموحي للتفرد ، ولا يسد جوعي للسلطة والجاه !
( مفلح ـ يبتلع الإهانة ، ويبرطم بما معناه: الله يعز مقدارك ، يجي منك أكثر )
ويقول : لماذا لا ترتحل عنه يا سيدي ! الحقيقة أنه لا يعرف قيمتك جيداً ! ولو التحقت بكافور لربما استقطع لك جزءاً من أرض مصر لتحكمه !
( قالها بكثير من الحقد والتشفي ، لأنه يعرف أنه لا أحد يهتم بقصائد المتنبي سوى من يكرهه من الشعراء ، والتاريخ يذكر لنا أن ( مفلح ) هو من كان السبب في قتل ( المتنبي ) حين ذكره ببيته الشهير ـ الخيل والليل والبيداء تعرفني ! وهو في هذه القصة سوف يقتله كذلك بطريقة أخرى !!
( المتنبي ) ـ نعم نعم ، أنت على حق ، إنه لا يستحق شاعراً مثلي !
( يلتفت ناحية قطعة سوداء من مادة غريبة ، تشبه الشكل الهندسي ( المربع ) وكتب عليها من الخلف بلغةٍ لا يعرفها ( Toshiba ) !
وقد كان خادمه مفلح يضرب عليها بيديه عندما كان يحدثه قبل قليل !
( المتنبي ) ـ ماهذا الشيء يا مفلح ! وماذا كنت تصنع به ؟
( مفلح ) ـ إنه ( لابتوب ) يا سيدي !
( المتنبي ) ـ لم يشأ أن يظهر بمظهر الجاهل الذي لا يعرف ، وهذا كبرياء في غير محله طبعاً ، لأنك من الطبيعي أن تجهل أي شيء عن اختراع لن يرى النور إلا بعد وفاتك بمئات السنين !
يقترب من اللابتوب ، يدقق النظر في لوحة المفاتيح ، وفي الشاشة التي تظهر مربعاً يحتوي عبارات مكتوبة بلغة عربية سليمة ، هناك كلمات تمر من الشاشة بشكل أفقي وأخرى ثابتة في محلها !
يسأل : وهل هذا الشيء هو ما كان يشغلك عني !
( مفلح بحرج ) ـ لقد كنت أضع الرتوش الأخيرة على واحدة من مشاركاتي في هذا المنتدى ! ولم أنتبه لما تقوله !
( المتنبي يواصل الاقتراب حتى ليوشك وجهه أن يلتصق بالشاشة ، يكمل حديثه ) :
أخبرني أكثر عن هذا المنتدى !
( مفلح مستطرداً ) : منتدى بني الساخر ، تجمع أدبي ، هو من الأماكن القليلة التي تسمح للكبار والصغار ، الأدباء والمخرفين ، المفكر الأصيل والمفكر المقلِّد ، المهم والتافه ، بالاجتماع في مكان واحد لمناقشة أفكارهم !!
بعضهم يكتب أشياء تستحق وبعضهم ( يلوك أفكاره ثم يقيؤها من جديد ) !
منهم من يحمل هماً ، ومنهم من يراعي حاجة السوق ، فيتحدث عن قيادة المرأة !
وعن مشاكل الأبناء هل منبعها البيت أم الشارع ؟
وعن محمود عباس أبو مازن هل هو مواطن شريف أم مجرد خائن آخر !!
يسأل الآخرين أسئلة لا يملكون أجوبتها !
لكنهم ـ بدورهم ـ يجدون أنه من الجميل أن تمنح الأجوبة لشخص ـ مثلهم تماماً ـ يملك الأسئلة فقط ولكنه لا يعرف أجوبتها !
والحقيقة أن هذا الاختلاط ، وتلك المعاشرة ، قد أثرت في كلا الصنفين ، فتجد الصغار وقد بدأت الرصانة تميز تصرفاتهم ، وتلحظ تغييراً طفيفاً في فكر بعض الحمقى للأحسن ، فتجده وقد بدأ ينتقي عباراته ، ويزن ألفاظه ..
وعلى النقيض من ذلك يتأثر بعض الأدباء والمفكرين بأخلاق المغفلين ، فتجده يتصرف تصرفاتٍ فيها طيش وحمق ، ويشوب منطق حديثهم فحش وبذاءة !
وهذا دليل كبير على أن من يعاشر قوماً لفترةٍ طويلة ، يصيبه ما أصابهم ..
( المتنبي مقاطعاً باستغرابٍ شديد ) ـ لماذا تغيرت نبرة حديثك ؟!
أنت تتحدث بأسلوبٍ غريب !
ثم كيف يلوك الشخص أفكاره ! وهل الأفكار تؤكل فضلاً عن أن تمضغ أو تقاء !
ومن هذا الأحمق الذي يشكك في خيانة محمود عباس أبو مازن !
هذا أمر لا يتناطح عليه تيسان ! فكيف يختلف بأمره المثقفون !
( مفلح ) ـ إنما هذه تعبيرات حداثية تعلمتها بعد احتكاكي مع هؤلاء القوم !
( المتنبي يشير له بيديه ما معناه أكمل ) ويقول : ـ حدثني عنهم يا مفلح !
كيف هم ! أين يعيشون !
( مفلح مسترسلاً ) ـ إنهم بشر مثلنا يا سيدي ، يعيشون في المستقبل ، في زمنٍ آخر !
لكن هذا الجهاز الذي بين يدي ، وبفضل تقنية ابتكرها ( الخواجات ) تدعى ( الإنترنت )
يردم أي فجوة بيننا وبينهم ! هم يعرفون كل شيء عنا ، عني وعنك ، بضغطة زرٍ واحدة !
وأنا أعرف كل شيء عنهم ، أحدثهم ويحدثونني ، أنقل لهم بطولاتك ، وأصور لهم معاركك ، دون أن يجول بخاطرهم أنني أعيش في زمن يسبق زمنهم بمئات السنين !
( المتنبي يهز رأسه ويقول بغروره المعتاد ) : من الطبيعي أن يعرف الآخرون كل شيء عني !
لكن عنك لا أعتقد !
حتى ولو عرفوك فسيعرفونك بصفتك ( خادم المتنبي ) ليس أكثر !
( الحقيقة أن أسلوب المتنبي المتعالي على الجميع هو من تسبب في قتله ، واحتقاره لمفلح هو ما جعل مفلح يكرهه كره العمى ، ما علينا )
( مفلح يجلس أمام اللابتوب ) يضع اسمه المستعار ( سيد القوم ) ثم يضرب بأصابعه على المفاتيح مدخلاً كلمة السر !
تظهر له رسالة ترحيبية ، تقول ما مفاده ( أيها القادم إلى وطن النور ، وشق في القلب ، وتغني بدون صوت ) !
طبعاً لا حاجة بنا لأن نقول أن ( المتنبي ) لم يفهم أي شيء !
لولا أن تبرع ( مفلح ) وأخبره بأنهم فقط يرحبون به !
يعني هي عبارة ( مرحباً بك ) بس معها ( شوية حركات ) وكذا يعني !
( مفلح يواصل شرحه ) : هذا المنتدى يحكمه شخص يسمي نفسه ( حاطب ليل ) ولديه عدد من الوزراء والقادة يسيرون أمور منتداه في غيابه !
( مفلح ـ بكل خبث ودهاء ـ يواصل العزف على الوتر الحساس للمتنبي ) : إنه المكان الوحيد الذي ينصف الطموحين أمثالك !
ألست طامعاً في منصب ! ألا تريد ولاية تكون أنت الآمر الناهي الوحيد فيها !
هنا يحققون لك ذلك ، وأكثر لمجرد أن تقول بعض الأبيات الجيدة التي تعجبهم !
سوف يخصصون لك منتدى خاصاً بك !
(مفلح يأخذ جولة على عدد من المنتديات الخاصة ، الغفوري ، بليزر أبيض ، عينا المتنبي تلمعان في جشع ، مفلح يواصل العزف ـ بقسوة ـ على كل أوتار الطموح والطمع في نفس سيده)
...............
بعد يومين ، قصيدة معلقة في شتات ، كاتبها يسمى ( أحمد الجعفي ) له لون رمادي جميل ، وأسفله ( الاسم أقصد وليس أسفل الجعفي ) عبارة جميلة ( بريئ ) !
والقصيدة تقول :
وأخلاق حاطبٍ إذا شئت مدحه *** وإن لم تشأ تملي عليّ فأكتب
إذا ترك الإنسان أهلاً وراءه *** ويمّم حاطباً فما يتغرّب
( قصيدة طويلة ، جميلة جداً للأمانة ، لكن ما فيها هو عبارة عن كلام فارغ ليشتري رضا
( راعي الحلال ) فلا المتنبي يعرف شيئاً من محاسن حاطب حتى يمدحه بهذه المبالغة !
ولا حاطب يشتري مثل هذا الكلام الفارغ !!
لكنها مجرد عينة ترينا حماقة ( حكام أول ) ( أخاف أقول حكام الحين أروح بستين داهية ) وسخافة شعراء أول ( والآن ) ورخصهم ، وثمنهم البخس !!
هناك رد جميل من الوزير الأول لحاطب : يقول فيه ما معناه :
يعني ما لقيت تسرق إلا من ( المتنبي ) يا ( الزلابة ) !
ومسوّي ذكي يومك تغير ( كافور ) وتحط ( حاطب ) !!
مرة ثانية إلعب غيرها .! واسرق من أبو تمام ولا جرير ولا حتى أدونيس !
يمكن تمشي علينا اللعبة على اعتبار أنه ( ليس كل الشعراء هم المتنبي ، وليس كل ما قالوه يعلق في أفئدتنا كما علقت أقوال المتنبي)
أولاً : واضح أن الوزير يحب المتنبي .!
ثانياً : لسانه سليط ، وردوده لاذعة !!
( المتنبي ثائراً ، والزبد يخرج من شدقيه ) يقول :
الحمقى ! كيف أسرق قصيدة للمتنبي وأنا المتنبي !
ثم أنت تعرف يا مفلح أنني ارتجلت هذه القصيدة للتو !
ثم كيف يقول أنني غيرت اسم كافور لأضع اسم حاطب مكانه !!
وهل يعقل أن أمدح هذا ( العبد ) !!
( مفلح شارحاً للمتنبي ) ـ الحقيقة يا سيدي أن كل ما قلته ، أو سوف تقوله يعتبر تاريخاً بالنسبة لهؤلاء القوم ! حتى الأبيات التي سوف تفكر بارتجالها الآن هم يعرفونها جيداً !!
( المتنبي يكتب هذا البيت ويضيفه في خانة الردود ) :
إني نزلت بكذابين ضيفهم *** عن القرى وعن الترحال محدود
جود الرجال من الأيدي وجودهم *** من اللسان فلا كانوا ولا الجود
وهو جزء من قصيدة ( فاحشة ) لا يصلح أن أكتب بقية أبياتها ..
يرد عليه الوزير :
بما أنك من هواة ( لطش ) المتنبي ، فلا أجد أنسب من هذا البيت لأرد به عليك :
وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ ** فهي الشهادة لي بأني كامل
( المتنبي يبدي أعجابه بالبيت ) قائلاً : لا أذكر أنني قلت شيئاً كهذا !
لكن من المستحيل أن يكتب أحد غيري بيتاً بهذه الجودة ! أنا أعرف أن بقية الشعراء هم مجموعة من الحمقى !
( المتنبي موجهاً كلامه لمفلح ) : ( إلا على فكرة ، ما قلت لي ما معنى ( زلابة ) !!
( مفلح ينفخ في الرماد ) : إنه يشتم أمك يا سيدي !
( المتنبي ) : الـ *** كيف يجرؤ !
( مفلح ) : بل يقول عنك ( أدونيس ) أيضاً !
( يقترب ويحيط أذن المتنبي بيديه ويهمس بصوتٍ منخفض ، كناية عن أن أدونيس شتيمة فائقة الفحش ) !!
( المتنبي يثور ، يرغي ويزبد ) : ثم يضيف رداً ( باسمه الجديد أحمد الكندي ) مليئ بالأشياء الجميلة التي ينال بسببها رواد الساخر عادة البراءة !!
وبما أن المعارك لم تعد كراً وفراً ، وأصبحت الدور تزال بضغطة زر ، ودول تمحى من على وجه الخريطة بإشارة لاسلكية ، فإن زوال معرف من الوجود لا يستدعي سوى جولةٍ لعشر ثوانٍ في لوحة التحكم
( المتنبي بإحباطٍ شديد ) : ماذا أصنع يا مفلح ؟ أين أذهب !
لا يبدو أن أحداً يرحب بي أو ينصفني !!
( مفلح يستغل الفرصة ) : الحقيقة أنك ـ أيها المتنبي ـ شاعر رخيص ، لكنك كما قال عنك القيرواني بأنك مالئ الدنيا وشاغل الناس ! وأنت ـ والحق يقال ـ عبقري ! عبقري متعالٍ متمرد ، وهذه الأسباب مجتمعة هي سبب تخليدك ! إن من يكرهك ساهم ـ دون أن يدري ـ في تخليدك أكثر ممن أحبك ! سيف الدولة لا دور له في حياتك إلا أنه كان محفزاً لك ، لكن ضبة ، وحتى كافور الذي أحسن وفادتك ( وهم أشخاص كرهتهم دون سبب ولم يكرهوك حقيقة ) كان لهم الدور الأكبر في صنع مستقبلك حتى الموت !!
أنت ـ بالنسبة لهؤلاء ـ شخص وجدت في الماضي ! ولم ينصفك أي منهم إلا لأنك شخص بائد ! لو كنت بينهم لربما كنت الآن مجرد شاعرٍ آخر ! تقليدي ، جامد !
تقف أمام مجموعة من الحمقى ( كبار السن ) حاملي الشهادات العليا !
في ( أمير الشعراء ) لتتنافس على لقب لن تحصل عليه
إلا لو أرسل لك الملايين من البشر عدداً فلكياً من ال( إس إم إس ) !
وبالنظر إلى سمعتك السيئة ! وأعدائك الكثر ! وجهل حكام اللجنة !
فإنك سوف تخرج من بداية المنافسة !!
ولن تحصل على منتداك الخاص لأنك تقول كلاماً واضحاً مفهوماً !
والآخرون يحبون الكلام الكثير الذي لا يفهمون جلّه !
( المتنبي يبحث عن أيقونة تسجيل الخروج ، مفلح يثنيه عن ذلك ، يذكره ببيته الشهير :
الخيل والليل والبيداء تعرفني *** والسيف والرمح والقرطاس والقلم
المتنبي يلعن خادمه ، ويشتم أمه ، ويعود لمعركة يعرف أنه لن ينتصر بها الأدباء ولا الشجعان ولا الفرسان !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق